AgOrAzEiN

Wednesday, October 19, 2005



"إنــقــلاب هــيــرونـيـمـوس بــوش" لـلـفـرنـســي كــمـيــل دو تـولــيــدو
أوان الــلــــــــــذة

في موسم الاصدارات الفرنسي المشبع بالأعمال المنتظرة لروائيين معروفين، نادرا ما تشق رواية اولى طريقها الى النور وتبرز في الواجهة الاعلامية وتلفت الأنظار. لكن يمكن القول إن رواية "انقلاب هيرونيموس بوش" للكاتب الفرنسي الشاب كميل دو توليدو، تقع ضمن هذه الفئة، ولا عجب في ذلك عندما نكتشف انها صادرة عن سلسلة Phase deux الجديدة لدى دار "غاليمار"، والتي يديرها كل من برنار واليه وجان غيون وايف باجيه، وهم كانوا قبلا نواة سلسلة "فرتيكال" في "سوي" قبل ان ينتقلوا الى مجموعة "غاليمار" عند بدء الموسم الجديد. على غرار منشورات "فرتيكال" ذات النكهة الخاصة، يتابع فريق العمل الطريقة نفسها في الاختيار، ملقياً الضوء في الدرجة الأولى على كتّاب جدد وأعمال غير تقليدية، شكلا ومضمونا، تنتمي الى نوع "الكتابة الجديدة"، وهي كل كتابة ما بعد حداثية خارجة على التصنيف ومتمردة على أساليب التأطير التقليدية.

اختار دو توليدو أميركا، ولاية تكساس تحديداً، مسرحا مبدئيا لانطلاقة روايته الأولى. باري - تكساس منطقة استمات مؤسسوها في جعلها نسخة مصغرة لباريس القرن التاسع عشر. هنا في الشمال الشرقي لدالاس، حُفرت قناة مائية في وسط المدينة علها تقوم مقام السين، تعلوها أشباه جسور باريسية ومن حولها برج ايفل مصغر يعتمر قبعة الكاوبوي المعروفة، وتجاوره أشباه ركيكة لبضعة رموز باريسية أخرى. هناك استقر ليوبولد وليم كاشو المعروف بـ" ل و ك" بعد طول ترحال حيث أنشأ مصنعه للسكاكر المحفزة جنسيا والتي أطلق عليها اسم "سكاكر اللذة". شخصية ليوبولد باردة اجمالا، متحفظة رغم كون صاحبها اجتماعياً الى مدى بعيد، اذ تنمو حوله العلاقات وتتشعب فتزيده غموضا وباطنية لكي يطل علينا كأنه نسخة معدلة ومتأمركة لليوبولد بلوم، بطل رواية "عوليس" لجيمس جويس. تنطلق عجلة انتاج هذه السكاكر اللعوبة التي تتغير ألوانها كلما تبدلت نوعية الإفرازات الجسدية التي تتعرض لها، وسرعان ما تنتشر وتزداد مبيعاتها باطراد نتيجة الاقبال الهستيري عليها.
تبدأ الرواية عندما ينتقل بطل دو توليدو من فندقه الوضيع الى مقر اقامته الجديد، وهو "المزرعة" الواقعة خارج المدينة، مصطحبا معه بعض العاملين والنزلاء. بهذا الانتقال، تنفتح أبواب الحلم الأميركي على مصاريعها ويتكشف لنا تباعا أبطال الرواية الخمسة (ستة مع ليوبولد) واحدا تلو آخر. هنا، في هذا العمل، الشخصيات - لا أعمالها او تصرفاتها او الحوادث المرتبطة بها - هي الرواية، بناء على فكرة ان كل شخص يختصر عالما، ولذا نكتشف عالم دو توليدو الغرائبي من خلال شخصياته التي أقل ما يقال فيها إنها خارجة على المألوف، ونتعرّف اليها على التوالي.
الشخصية الأولى هي استاذ الفلسفة الفرنسي بول فلنسان، الذي ينضم الى حلقة "ل و ك" بعد ان تطرح أسهم الشركة في سوق البورصة العالمي، هاربا من الحياة الاكاديمية ونابذا التكاذب الاجتماعي الذي يسود المجتمع الفرنسي. انها هجرته الثانية الى أميركا مدفوعا اليها بالأسباب نفسها التي حكمت الهجرة الأولى. هو يبيع مبادئه، لكن بشرف ووفق حركة الرياح الآتية. يصدر الكتاب تلو الآخر، يكيل لليوبولد المديح ويعلن قلب معايير البورجوازية ويبشر بحتمية حلول مملكة اللذة. انه دوما اسير اسطورته الشخصية، يحاول التأثير في المرأة من دون نتيجة تذكر. انه مثال المفكر المعاصر الساقط الذي بعدما خذلته الايديولوجيا، عزز مشاريع الاستمرار الهامشية التي لا تلبث ان تنقض على هامشيتها عند انقلاب موازين القوى.
أما بودوار ففرنسية هي الأخرى، ترافق مسيرة ليوبولد من البداية. بودوار هي الرمز الجنسي الذي يعوّل عليه ليوبولد دائما لانجاح منتوجه الجنسي الجديد. من خلالها يجسد الكاتب عبثية المعايير الانسانية والاجتماعية الجديدة المستسلمة للظواهر السطحية والعدوى المرضية العمياء. فعندما تصور بودوار اعلانا تظهر فيه من طريق الخطأ سنها المكسورة، تزداد شراهة الافتتان الجنسي بها وسرعان ما تصبح السن المكسورة على الموضة ورمزا للاثارة. إلا ان شخصية بودوار الروائية ثانوية وناقصة، تعاني ثغرا كثيرة في النضج الروائي. هامشيتها، وان تكن مفتعلة، لم تأت بأي فائدة حقيقية للحبكة الروائية أو لمسار الأمور. انها شخصية لم تتطور فعلا خارج النص أو في داخله.
ماذا عن بيوتر؟ انه الخادم الأمين والكتوم الذي تعوّد أن يغلف بصمته ما يقع تحت ناظريه. تمعن شخصية بيوتر في الهامشية الى حد النفور، لكنها تفاجئنا لاحقا حين تظهر لواعجها الدفينة والتواقة الى الإنتقام. بيوتر هو الناجي الوحيد من حريق هائل مفتعل سببه أحد الرأسماليين الجشعين، وهو يتحين الفرصة المناسبة للإنتقام. يحصل بيوتر عل مراده، لكن على طريقة المسلسلات المكسيكية الى حد بعيد (موت طبيعي لعدوه يسبق بثوان محاولة اغتيال فاشلة من جانب بيوتر) ولا نلبث أن نراه يعود الى حاله الأولى قبيل نهاية الرواية، أي الى أداء دور الخادم الوضيع عند ليوبولد.
الشخصية الرابعة هي الصحافي، شخصية أيضاً غير مكتملة روائيا. انه يجسد الصورة النمطية للصحافي الأميركي الغارق في متاهاته الشخصية وسط عالم تتنازعه الأشكال القصوى وغير الإنسانية لمعايير المنافسة المهنية القاسية. يغرق الصحافي في مرحلة لا تخلو من الكآبة تقوده في النهاية الى كشف سر الراهب ومعاونيه مستعيدا في هذا بعضاً من واقعيته وصفائه النفسي.
أما الشخصية الخامسة، الراهب، فنقيض ليوبولد الأخلاقي والفكري. يدعو الراهب الى الإبتعاد عن اللذة لا بل الإمتناع الكلي عنها وذلك من خارج إطار الدين ومؤسساته الأخلاقية. الراهب شخصية لا وجود لها في النص الروائي لكن شبحها حاضر بشكل أساسي في التركيبة الروائية ويفاجئنا دو توليدو في نهاية الرواية حين يتضح لنا أن الراهب هو الشقيق الحقيقي لليوبولد. لقد جعل المؤلف من ليوبولد والراهب صورة للشيء وضده، للنقيضين اذ يلتقيان في كيان واحد، فيتجلى كم ان الامتناع والإنفلات الجنسيين، رغم كونهما متناقضين في الظاهر، متشابهان متوافقان في العمق، ووجهان لعملة واحد اسمها التطرف والاسراف والمغالاة. اعتمد دو توليدو، المولود عام 1976 على مجموعة نصوص قصصية وسينمائية صادرة عن دار "كارمان ليفي" عام 2002، مستخدما تقنية القص الدائري فأنهى روايته من حيث بدأها: ليوبولد يتأمل نحلة أغوتها حلاوة عصير البرتقال فكادت تغرق في الكوب لولا انتفاضتها اليائسة الأخيرة، التي سمحت لها بطيران متعثر أفلتها من براثن الموت السكري. واستعمل الكاتب مفهوم ثنائيات جيروم بوش الشهيرة، اي الخير والشر، الجمال والقبح، الجنة والنار، لكتابة رواية يعشش فيها "الكيتش" الأميركي الصرف، فغدت هذه الرواية بواقعيتها الفجة مشروع نقد اجتماعي وفكري ذهب مذهب الوعظ المبطن تارة أو المباشر طورا، مما ألحق بعض الضرر ببنيتها القصصية. لكنها أولا وأخيرا رواية الخطط التي تنقلب على رأس صانعها، ونقد حاد وساخر وشرس للعالم على الطريقة الأميركية.

ميشال قبلان

0 Comments:

Post a Comment

<< Home